مدونة وقفات

نحن لا نحيا بمطارة آمالنا .. نحن ننحر الحياة قرباناً لنيل آمالنا..

حكاية الزمن حين أصبح أزمنة!!

كانت العلوم القديمة تنظر إلى «الكون» هذا الفضاء المترامي، نظرة مبسطة وسطحية إلى حد كبير، فمثلا هندسة أقليدس «الهندسة التقليدية» تضع نظرياتها عن الخطوط المستقيمة والتوازي ومجموع زوايا المثلث «180 ْ» على أساس أن السطح مستو، وأن الكون ذو ثلاثة أبعاد فقط!!
عشرات القرون أمضتها البشرية تحت وطأة هذه الأفكار البسيطة إلى أن حدثت الثورة العلمية على يد نيوتن وديكارت وماكسويل وماكس بلانك وآينشتاين وغيرهم.
إنها ثورة الأسئلة الكبرى عن الكون: ألا يمكن أن يكون السطح كرويا أو غير مستو؟ أليس هناك مثلث مجموع زواياه أقل أو أكثر من «180 ْ» ؟ ولماذا لا يكون الكون ذا أربعة أبعاد؟ مثل هذه الأسئلة كانت بمثابة المغامرة المجنونة التي أفضت بنا إلى القرن العشرين بمنجزاته الرهيبة.
ولأنها مغامرة مجنونة فإن أفكار أغلب هؤلاء العلماء لم تجد أذنا صاغية على الأقل في البدايات بل كان العنت والجحود والتسفيه كالعادة. هذا بعض ما يحكيه كتاب «الكشف عن حافة الزمن» للبروفيسور جون جريبن، وصدرت ترجمته مؤخرا عن المجلس الأعلى للثقافة للأستاذ علي يوسف علي.
في هذا الكتاب متوسط الحجم يحكي جريبن بحاسته العلمية الثاقبة وبأسلوب مبسط أهم تطورات علم الفلك خلال ثلاثة قرون تقريبا. يؤصل لجهود عشرات العلماء من جنسيات مختلفة وسعيهم الحثيث لاكتشاف الكون، بهذا المعنى يعد الكتاب تأريخاً علميا للكون نفسه.

كان الاعتقاد القديم السائد أن الكون ثابت لكن جهود العلماء المتوالية أثبتت خطأ هذا التصور، إلى أن تبلور النموذج الكوني الجديد المستنبط من النظرية النسبية العامة لآينشتاين الذي فتح الباب بقوة أمام وصف لكون رباعي الأبعاد «بإضافة بعد الزمن» ومتغير الحجم، سواء بالتناقص أو التزايد، لكنه لا يقبل بالمرة كونا ثابتا! مئات من ملايين النجوم تتناثر في الكون الفسيح كما تتناثر الجزر في المحيط الهادي، ومجرات تتباعد عن بعضها البعض، وفضاء بين المجرات يتسع باطراد. حتى آينشتاين نفسه كاد ألا يستوعب عبء هذه الحقيقة المذهلة وظن أن بنظريته سوءا حاول علاجه بإدخال عامل يلغي هذا التمدد!!
بالطبع استقرت النسبية كأساس لفهمنا للكون برمته لكن هذا لا ينفي أن الكون ما زال مليئا بالألغاز وبالحقائق المجهولة، التي ربما تفوق قدرات البشر. فإذا كان العلماء تقبلوا مع الوقت فكرة التمدد الكوني وفكرة أن الكون مكدساً في نقطة مستعرة، ثم انفجرت فيما يسمى بالانفجار العظيم، إلا أن كثيرا منهم لم يتقبل الصورة العكسية للكون وهي الانهيار النجمي إلى ثقب أسود.
فاللغز الذي شغل العلماء في النصف الثاني من القرن العشرين ليس مكونات الكون ومجراته ولا قياسات الضوء أو الجاذبية، وإنما كان التركيز على الفكرة المقابلة «فكرة الانهيار». هل يمكن لأحد النجوم كالشمس مثلا أن ينهار ؟ ما طبيعة هذا الانهيار؟ وما هي أطواره المحتملة؟ وراح بعض العلماء المولعين بسيناريو الانهيار يتحدثون عن اللحظات الأخيرة في عمر الكون الشاسع، الذي سيواصل التمدد إلى أقصى نقطة ممكنة وبعدها يتقوض ويبدأ في الانكماش والتحلل إلى أن يصبح ثقبا أسود.
السير إدنجتون أعظم فلكي في القرن العشرين قال يصف هذه الحقيقة متهكماً «يظل النجم يشع ويشع، وينكمش وينكمش، حتى تقبض الجاذبية على كل الإشعاع». هذا العالم الجليل الذي أثبت صحة نظرية آينشتاين «فلكيا» عام 1919م وكان أحد أسباب شهرة هذه النظرية عالميا بعد مرور خمسة عشر عاما على طرحها، هو نفسه وقف كحائط صد ضد كل من يطرح أفكاراً عن انهيار النجم. فعندما قدم العالم الكبير تشاندرا سيخار «الحاصل على نوبل 1984م بحثه عن «الأقزام البيضاء» للجمعية الملكية الفلكية عام 1935م، نهض إدنجتون ليعلن أن نظرية تشاندرا سيخار محض هراء، دون أن يؤسس اعتراضه على سند علمي، بل على مجرد الإحساس الشخصي بالمواضع التي يمكن تطبيق قوانين الفيزياء فيها والمواضيع التي لا تطبق فيها.
نظرا لصعوبة قبول هذه الأفكار حتى لدى العلماء أنفسهم مهد البروفيسور جريبن لها في كتابه في فصلين كاملين، في الفصل الأول «التاريخ القديم» استعرض بإيجاز أهم النظريات التي ساهمت في اكتشاف الكون منذ أقليدس وحتى نيوتن، وفي الفصل الثاني «التواء الزمان والفضاء» أضاف شرحاً مبسطاً لنسبية آينشتاين التي قوّضت التصورات القديمة.
وبدءا من الفصل الثالث «النجوم المكتنزة» تبدأ الدراسة الحقيقية للغز الزمن ومسألة انهيار النجم، أول إشارة لاحتمال وجود مثل هذه النجوم المكتنزة «صغيرة الحجم كبيرة الكتلة» تعود إلى الفلكي الألماني فردريك بسل الذي تحدث عام 1840 عن وجود نجم مكتنز معتم. وانقسمت جهود العلماء فيما بعد إلى فريقين، الأول يرى أن مثل هذه النجوم لا تشع إطلاقا فهي معتمة «عكس ما هو معروف عن طبيعة النجوم عامة» وإما أنها تتسم بكثافة عالية، فعلى سبيل المثال درس العلماء نجم الشعرى اليمانية ورأوا أن ثمة نجما معتما قرينا له يتبادل التجاذب معه، وفسر الأمر بأن لمعان الشعرى ضعف لمعان أي نجم آخر وبالتالي لا يظهر لمعان النجم القرين «الشعرى ب» هذا ما قال به الفريق الأول.
لكن الفريق الآخر علل سر عتمة النجم القرين بكثافته العالية وأثبت أن كثافة هذا النجم تبلغ عشرة آلاف كثافة الرصاص.
آنذاك اشترك الفلكي الشهير هنري نوريس رسل في وضع ما يسمى «مخطط رسل» الذي يربط بين لمعان النجوم ودرجة حرارتها.
ومع بداية القرن العشرين وضع مرصد جامعة هارفارد النجوم في فئات «M، k، G، A، B، O» فالنجوم التي تقع في فئة B وO بيضاء حارة، والنجوم M وK حمراء باردة، أما شمسنا فتصنف في الفئة G المتوسطة، بما يعني أن النجوم التي تقع في الفئة M وK تكون خافتة إلى درجة الاعتام.
وفي عشرينيات القرن العشرين بدأت دراسة التركيب الداخلي للنجوم عامة على يد السير أرثر إدنجتون، وكان السؤال: «ما الذي يحدث حين تستنفد طاقة الاندماج النووي داخل النجوم، فيبدأ النجم في البرودة؟ المتوقع أن تبدأ النويات في استرداد الإلكترونات فتتحول إلى ذرات عادية، مما يترتب عليه انتفاخ قلب النجم مرة أخرى إلى غازات كالتي نعرفها ولكن للأسف على النجم لكي يفعل ذلك أن يبحث عن مصدر خارجي للطاقة، وكما عبر إدنجتون «يحتاج النجم لطاقة لكي يبرد» وحيث لا يوجد هذا المصدر الخارجي، فإن هذه العملية لن تتم ويظل النجم في حالة لا يحسد عليها واقعا تحت ضغط جاذبيته الشخصية التي تعمل على تحطيمه.
وحاول رالف فاولر عام 1926م أن يشرح كيف يتصرف النجم المحتضر خلال هذا المأزق أو «تردي النجوم» بأن قلب النجم سيظل في حالته العالية من الكثافة، غائصة نوياته في بحر من الإلكترونات، وأن التصادم بين الإلكترونات والنويات، والنويات بعضها ببعض، ينتج ضغطاً كافياً عندما ينكمش النجم إلى حجم معين، لمقاومة الجاذبية الساحقة له. أي أن هذه المادة المتردية تكون متماسكة بفعل «ضغط التردي» في صورة «غاز الكتروني منحل» لكن بعد سنوات قليلة أثبت العلماء أن هذا الغاز الالكتروني المنحل لن يكون قادراً بصفة مطلقة على دعم النجوم المكتنزة أمام ضغط الجاذبية الساحق، لتتحول هذه النجوم إلى ما يسمى بالأقزام البيضاء.
حتى ثلاثينيات القرن العشرين لم يكن العالم يعرف مكونات الذرة، كان المعروف من بنيتها عنصرين هما الإلكترون الذي يحمل الشحنة السالبة والبروتون الأثقل منه بقدر كبير ويحمل شحنة موجبة.
وفي مطلع الثلاثينيات وتحديدا عام 1932م توصل جيمس شادويك إلى وجود النيوترون وهو جسيم له نفس كتلة البروتون ولكنه لا يحمل أي شحنة. وعلى الفور بدأ السؤال الكبير: هل يمكن أن يكون هناك نجم مكون من نيوترونات خالصة؟ وجد كثير من العلماء أنه من الطبيعي أن تندمج البروتونات مع الإلكترونات تحت ظروف الضغط والحرارة الهائلين بقلب النجوم ليتحول قلب النجم إلى كرة هائلة مكونة من نيوترونات فقط ليبدأ الانفجار بقوة فظيعة مطلقاً قدراً هائلاً من الطاقة، انفجار يعادل إضاءة مجرة كاملة يسمى «السوبر نوفا».من المفترض أن قطر القزم الأبيض حوالي جزء من مائة جزء من قطر الشمس بينما قطر النجم النيوتروني يبلغ جزءا من سبعمائة جزء من قطر القزم الأبيض.
مثل هذا النجم الضئيل للغاية مكدس في كرة قطرها لا يزيد على عشرة كيلومترات لكن كتلته تعادل كتلة الشمس، وهكذا يجلس هذا النجم النيوتروني على حافة التحول إلى ثقب أسود رهيب.
وتوصل روبرت أوبنهايمر أحد صنّاع القنبلة الذرية التي ألقيت في الحرب العالمية الثانية إلى أنه حين تستنفد الطاقة الحرارية النووية وينهار النجم فإن الإنكماش سيبدو مستمرّا الى ما لا نهاية أمام عين المراقب وينزاح الضوء إلى اللون الأحمر باطراد إلى أن يتم الانهيار في غضون يوم.
ويمكن التفكير في الانزياح الأحمر عن طريق الطاقة، فالضوء الأزرق يحمل طاقة أعلى مما يحمله الضوء الأحمر، ويعتبر الانزياح الأحمر من هذه الزاوية دليلا فقط على طاقة الضوء وهو يغالب الجاذبية للفرار منها، وفي حالة نجوم كتلتها عالية ومكدسة بدرجة كبيرة يمكن للإزاحة أن تتخطى مدى اللون الأحمر لتصل إلى مدى الموجات تحت الحمراء أو الموجات الراديوية، وسوف تأتي نقطة من استمرار انكماش النجم المتهاوي تكون فيه قوة الجاذبية عند السطح من الكبر بحيث يفقد الضوء طاقته الكلية قبل أن يستطيع الفرار، سيكون الانزياح قد وصل إلى ما لا نهاية، ولن يكون هناك موجات بالمرة، هنا يكون النجم قد تحول إلى ثقب أسود، يحدث ذلك عندما تصل سرعة الهروب إلى سرعة الضوء.
خلال الفصول من الخامس إلى السابع يتحدث المؤلف باستفاضة عن طبيعة هذه الثقوب السوداء ودورها في تطور أشباه النجوم والمجرات والنابضات. بعد أن كان العلماء في بدايات القرن العشرين لا يحملون هذه الفكرة محمل الجد. لكن إمعان النظر فيها جعل العلم يبحث عن افتراض أن بالكون ثقوباً أخرى مثل ثقوب الديدان أو الثقوب البيضاء.
مثل هذه الاكتشافات والافتراضات أعادت النظر بقوة في طبيعة الزمن وآليات ضبطه، فعلى سبيل المثال ساعتنا الفلكية الأصلية تعتمد على سرعة دوران الأرض حول محورها، وبالتالي تقدر الثانية المعروفة بأنها جزء من يوم فلكي «حاصل ضرب 60 * 60 * 24» = 86400 «عدد الثوان في اليوم الواحد» ولكن لأسباب فلكية يتغير طول اليوم على مدى السنة تغيراً طفيفاً وبالتالي لا يبدو معيار الثانية منضبطاً، على هذا الأساس تحسب الثانية بدقة على أساس «الساعة الذرية» وتحديداً على أساس تردد إشعاع عنصر السيزيوم، فالثانية هي الزمن الذي ينقضى بعد انبعاث 770.631.192.9 ومضة من ذلك الإشعاع.
وإذا كانت سرعة الضوء 300 ألف كيلو متر تقريبا في الثانية «العادية» الواحدة، فإن هذا يعني أن الضوء نفسه يمكن أن يستغل طوله الموجي كمقياس لمرور الزمن ويصبح «ساعة».
والآن لنطبق مفهوم الزمن بالقرب من الثقب الأسود، ونفترض أن بعض المغامرين يحملون عنصر السيزيوم ويقيسون الزمن بتردد إشعاعه بالقرب من الثقب الأسود، بالطبع سوف تغمرهم السعادة حين يدرون أن مدى انضباط تردداته مثلما كان في موطنهم الأصلي بعيداً عن الثقب الأسود. ليس هناك أدني تغير، لكن الوقت الذي ينقضي لبث ذرة السيزيوم للعدد المذكور من الترددات عند المغامرين الذي يمثل الثانية بالنسبة لهم، يستغرق أكثر من نفس عدد الترددات لذرة السيزيوم الموجودة على مركبة المراقبين، فبالنسبة للمراقبين يعيش المغامرون حياتهم بسرعة أبطأ وإن لم يلاحظوا أي تغير في الأمر، وربما يجادلون بأن المراقبين لهم هم الذين يعيشون حياتهم بسرعة أكبر. والنتيجة أن الزمن المسجل لدى المغامرين سوف يكون أقصر مما سجل لدى المراقبين، بما يعني أن عمرهم سيكون أقل بالفعل من عمر زملائهم، فظاهرة مط الزمن ليست تأثيراً خادعاً نتيجة أسلوب مختار لقياس الزمن، وإنما وكما أدرك آينشتاين يبقى الضوء هو الشيء الوحيد الذي يعتبر مقياساً أساسياً لا يختل للطول والزمن على السواء.
في هذا الفضاء المترامي العظيم يستطيع من يعيش بالقرب من الثقوب السوداء مستغلا إياها في أن يقوم برحلة عبر الكون تستغرق منه عدة ساعات ضوئية. لكنها بالطبع وبحساب ساعتنا العادية سوف تستغرق قروناً!!


2 thoughts on “حكاية الزمن حين أصبح أزمنة!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *